يبدو أنّ الخارطة الجيو - أمنية والسياسية للمشهد السّوري تصنع الحدث، وغيّرت الكثير من الأوراق التي راهنت عليها القوى الكبرى، وبتدخل القوات الجوية الروسية إلى المعترك الأمني، العديد من الدول التي كانت تعتقد أنّ ذهاب الرئيس السوري بشار الأسد من الأولويات في أجندتها، إلاّ أنّ الأحداث التي شهدها العالم والتداعيات الكثيرة حول المشهد السوري، أعاد نوعا ما بوصلة القرارات إلى جادة صوابها لتكون ضمن الأولويات الكبرى للغرب الذي يحاول أن يكون صانعا للحدث.
منذ ما يزيد الشهرين أو أكثر، سلاح الجو الروسي يواصل قصف أتباع الجماعات الإرهابية من تنظيم داعش وجبهة النصرة، مع تحرير عدد معتبر من المواقع التي سيطرت عليها الجماعات الإرهابية، وهي خطوة اعتبرها المحلّلون الأمنيون تدخل في إطار كسر شوكة هذا الفصيل الإرهابي، خوفا من امتداده نحو الضفة الشرقية لأوروبا وتوقيف تزايد عناصر الدعم لأتباعه.
الطّلعات الجوية الروسية كانت الحلقة المفقودة في هذه المعضلة بالنسبة للحكومة السورية، التي لم تستطع صدّ هجمات الإرهاب الداعشي ممّا خلق لديها عجزا في الإمداد والتعبئة نتيجة الجبهات العديدة المفتوحة، وتمركز هذه الجماعات المسلّحة على مدن وقرى بكاملها وفرض قوانينها الإجرامية على ما تبقّى من السكان، الذين كان خيارهم الوحيد البقاء تحت رحمتهم، بما أنّ الفاصل الزمني في الشأن ذاته لم يكن قصيرا وتجاوز الأربعة سنوات، فإنّ الأمر لم يكن بالهيـّن بالنسبة للأطراف السورية، ضف إلى ذلك تغلغل المعارضة في جبهات أخرى متفرّقة أمام ضغوطات دولية وفرض عقوبات على النّظام السّوري، خل نوعا من التخاذل لدى بعض دول الداعمة لرحيل النظام واحتضان المعارضة، وبين تلك التي أكّدت أنّ الأجندة السياسية هي الأقرب منها إلى الأمنية التي تقف فيها الآن روسيا بدعم من الصين وبعض الدول الأخرى.
هذه المقاربة أحرجت كل من الولايات المتحدة الامريكية وفرنسا بعد الهجمات الأخيرة التي تعرّضت لها باريس، ثم حادثة باماكو هي الأخرى أفرزت ظلالها على القرارات الدولية، ممّا أفرز نوعا من الليونة في التعامل مع النظام السوري ليخرج كل من الرئيس الامريكي باراك أوباما، إلى جانب نظيره الفرنسي هولاند، معتبران أنّ الأولوية الآن هي لمحاربة التنظيم الارهابي “داعش”، وبعده يكون الحديث عن رحيل الرئيس بشار الاسد أو بقائه.
اجتماع الرياض..
بداية الحل أم صفير قطار فقط؟
في ظل الجهود الدولية التي تبذلها الدول الكبرى للتّقليل من حدة التوتر الحاصل في سوريا الآن، تسعى بعض دول الجوار على غرار مصر والسعودية دعوتهما إلى هذا اللقاء بعد اجتماعات فيينا الاخيرة، حول تقريب وجهات النظر المختلفة التي تدّعي المعارضة السورية أنّها تملك مفاتيح الحل على الارض السورية، ممّا يعني بالنسبة إليها أنّ المشاركة في صناعة الحلول القادمة لا يتأتّى إلا بالجلوس إلى طاولة التفاوض مع الحكومة السورية، وتقديم الحلول وتغليب لغة التنازل والمصلحة على أي خيار آخر. لكن ما يحدث الآن في أرض الشّام غيّر كل هذه المطالب، ولم تصبح الأوراق الرّاهنة من الأولويات بالنسبة للنظام السوري باعتبار سوريا الآن في حرب مع الارهاب، ومن لديه القدرة على الحلول عليه النّزول إلى المعركة الأمنية وإعطاء المقاربات البديلة لصدّ تنظيم “داعش” والنصرة وغيرها من الجماعات المسلّحة. هذه الأخيرة استولت حتى على الأراضي التي كانت المعارضة تدّعي أنّها فرضت قبضتها عليها، وهو الخطأ الكبير الذي راحت ضحيته العديد من الفصائل المسلحة المعارضة، الذي وجدت في الجيش السوري الملاذ الأخير للإفلات من قبضة “الدواعش” الارهابية، ممّا يعني أنّ الحديث على الأرض ليس هو نفسه حديث الخيارات خارجها.
وفي انتظار أن تلتئم التّنظيمات السياسية المعارضة نفسها في كيان سياسي موحد قادر على التفاوض مع النظام السوري تحت مظلة الامم المتحدة، هذه العملية التي تراها بعض الاوساط من المعارضة نفسها أنها فرصة الوصول إلى حل سياسي والدخول في مرحلة مفاوضات مع الرئيس بشار الاسد ستكون ناجحة.
في الوقت نفسه نفت العديد من الفصائل المعارضة ما يتردد عن لقاء الرياض، قائلة أن اللقاء لا يعنيها طالما انها لم تكن طرفا فيه، مما قد يزيد من اتساع الهوة بين المعارضة ذاتها، ناهيك عن الصراعات الطائفية والعرقية التي تتخبط فيها هذه الاطياف، ممّا يعني أنّ حساباتها ستكون مرهونة مع حجم التمثيل والمشاركة للأطياف السورية الاخرى، الأمر الذي علقت عليها روسيا على لسان وزيرها للخارجية، “بأنّ اللّقاء مهم لو أنّ التّمثيل يجمع كل الحساسيات والشّرائح، دون إقصائه لأي طرف”، ربما هو نفس المطلب الذي تقدّمت به إيطاليا على لسان وزيرها للخارجية باولو، ورأت إنّه من الضروري البحث عن رؤية موحّدة نحو مفاوضات محتملة مع النّظام السّوري.
«سان بارناردينو” تلقي ظلالها على المشهد
لم يهضم المواطن الأمريكي ما حصل بالضبط في هذه المدينة، بعد الهجمة التي أودت بعشرات الأمريكيين دون أن تتوصّل الجهات الأمنية إلى تحديد هوية أصحاب العملية هل هي “داعش” الارهابية أم القاعدة أم ماذا؟ خاصة وأنّ الفارق الزمني بينها وبين أحداث فرنسا والهجوم على فندق باماكو جاءت متقاربة تماما، ممّا يوحي أن العملية الانتحارية هي مخططة ضمن أجندة شاملة، الأمر الذي جعل الرئيس الأمريكي في خرجته الاخيرة يقول أنّ مصالحه لم تتوصّل بعد إلى هوية وانتماء الفاعلين إن كانت وراءه جماعات إرهابية أم غير ذلك، مما يعني ترجيح كل الاحتمالات.
في ظل هذه الأسئلة يتوجّب على السياسية الامريكية ان تكون في رغبة وتطلعات المواطن الامريكي، خاصة بعد تجربة العراق الفاشلة في السياسة الامريكية وقبلها أفغانستان، تحرك الشارع الأمريكي حول هذه الحروب التي تكلّف الخزينة الملايير من الدولارات، إضافة إلى الخسائر البشرية. وقصد تجنب تجربة اخرى تكون وخيمة قرّر الرئيس الامريكي متابعة المشهد السوري عن طريق صد ومحاربة التهديدات الارهابية لا غير، مذكرا في الصدد نفسه بأن: “أمريكا لن تنجر إلى حرب برية في سوريا ضد التّنظيم الارهابي داعش”، لأنّها حسبه مكلفة، مؤكدا أنّ محاربتها ضرورة لأنّها تهدّد العالم، معتبرا أنّ الاستراتيجية التي تنتهجها القوات الامريكية مع التّحالف تدخل ضمن المخطّط، الذي سيوفّر نصرا مستداما،
رفض أوباما في خطابه أن يتم التعامل مع المسلمين الامريكيين في نفس خانة الذين يدعون الاسلام كـ “داعش” الارهابي، وغيرهم من الجماعات الإرهابية التي تدّعي الاسلام وهي بعيدة عنه ولا تمثل الدين الحنيف، واصفا في هذا الشّأن بأنّ الكثير من الدول تقف في صفّ الولايات المتحدة الأمريكية في حربها ضد الارهاب،
الأمر الذي اتّفق فيه مع الرئيس الفرنسي حول بقاء الرئيس السوري بشار الأسد، أو رحيله ليس من الأولويات في المرحلة الحالية نظرا للمعطيات التي طرأت على الواقع والمشهدين الاقليمي والدولي، ناهيك عن تواجد القوات الرّوسية في الميدان وتحقيقها للعديد من النّتائج وتحرير مدن بأكملها من أيدي الجماعات الارهابية.